سورة الروم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ} توبيخٌ لهم بعدَ اتِّعاظِهم بمشاهدةِ أحوالِ أمثالِهم الدَّالَّةِ على عاقبتِهم ومآلِهم. والهمزةُ لتقريرِ المنفيِّ، والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أقعدُوا في أماكنِهم ولم يسيرُوا {فِى الارض} وقولُه تعالى: {فَيَنظُرُواْ} عطفٌ على يسيروا داخلٌ في حكمِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ، والمعنى أنَّهم قد سارُوا في أقطارِ الأرضِ وشاهدُوا {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأممِ المهلكةِ كعادٍ وثمودَ، وقوله تعالى: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} إلخ بيانُ لمبدأِ أحوالِهم ومآلِها يعني أنَّههم كانُوا أقدرَ منهم على التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا حيثُ كانُوا أشدَّ منهم قوَّةً {وَأَثَارُواْ الارض} أي قلبُوها للزراعةِ والحرثِ وقيل لاستنباطِ المياه واستخراجِ المعادنِ وغيرِ ذلك {وَعَمَرُوهَا} أي عمَّرَها أولئك بفنونِ العماراتِ من الزِّراعةِ والغرسِ والبناءِ وغيرها ممَّا يُعدُّ عمارةً لها. {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمارةً أكثرَ كمَّا وكيفاً وزماناً من عمارةِ هؤلاءِ إيَّاها، كيف لا وهُم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرعٍ لا تبسُّط لهم في غيرهِ وفيه تهكُّم بهم حيثُ كانوا مغترِّين بالدُّنيا مفتخرينَ بمتاعِها مع ضعفِ حالِهم وضيقِ عطنِهم إذْ مدارُ أمرِها على التبسطِ في البلادِ والتسلطِ على العبادِ والتقلبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التَّصرفاتِ وهُم ضَعَفهٌ ملجأون إلى وادٍ لا نفعَ فيه يخافُون أنْ يتخطَّفَهم النَّاسُ {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات أو الآياتِ الواضحاتِ {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فكذَّبوهم فأهلَكهم فما كانَ الله ليهلَكهم من غير جُرمٍ يستدعيِه من قبلهم، والتَّعبيرُ عن ذلك بالظَّلمِ مع أنَّ إهلاكَه إيَّاهم بلا جُرمٍ ليس من الظُّلمِ في شيءٍ على تقرَّرَ من قاعدةِ أهلِ السنةِ لإظهارِ كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بإبرازهِ في معرضِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى وقد مرَّ في سورةِ الأنفالِ وسورةِ آلِ عمرانَ {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بأن اجترأوا على اقترافِ ما يُوجبه من المعاصِي العظيمةِ.
{ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَآءُوا} أي عملُوا السيئاتِ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بالإساءةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحكمِ {السَّوأى} أي العقوبةِ التي هي أسوأُ العقوباتِ وأفظعُها التي هي العقوبةُ بالنارِ فإنَّها تأنيثُ الأسوأِ كالحُسنى تأنيثُ الأحسنِ أو مصدرٌ كالبُشرى وُصفَ به العقوبةُ مبالغةً كأنَّها نفسُ السوآ، وهي مرفوعةٌ على أنَّها اسمُ كانَ وخبرُها عاقبةَ. وقرئ عَلى العكسِ وهو أدخلُ في الجَزَالةِ. وقولُه تعالى: {أَنْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} علَّةٌ لما أُشير إليه من تعذيبِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ أي لأنْ كذَّبُوا أو بأنْ كذَّبُوا بآياتِ الله المنزَّلةِ على رُسُلهِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومعجزاتِه الظَّاهرةِ على أيديهم. وقولُه تعالى: {وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُون} عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حُكمِ العِلِّيةِ، وإيرادُ الاستهزاءِ بصيغةِ المضارعِ للدِّلالةِ على استمرارِه وتجدُّدِه هذا هو اللائقُ بجزَالةِ النَّظمِ الجليلِ وقَدْ قيلَ وقيلَ.


{قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق} أي يُنشئهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموتِ بالبعثِ {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى موقفِ الحسابِ والجزاءِ. والالتفاتُ للمُبالغةِ في التَّرهيبِ وقرئ بالياءِ {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} التي هي وقتُ إعادة الخلق ورجعهم إليه، {يُبْلِسُ المجرمون} أي يسكُتون مُتحيِّرينَ لا ينبِسُون، يقال ناظرتُه فأبلسَ إذا سكتَ وأيسَ من أنْ يحتجَّ. وقرئ بفتحِ اللامِ، من أبلسَه إذا أفحمَه وأسكتَه {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} يجيرونَهم من عذابِ الله تعالى كما كانُوا يزعمونَه. وصيغةُ الجمعِ لوقوعِها في مقابلةِ الجمعِ أي لم يكُن لواحدٍ منهم شفيعٌ أصلاً {وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كافرين} أي بإلهايتهم وشركتِهم مِ سبحانه حيثُ وقفُوا على كُنهِ أمرِهم. وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على تحقُّقِه وقيلَ كانُوا في الدُّنيا كافرين بسببِهم وليسَ بذاكَ إذْ ليسَ في الإخبارِ به فائدةٌ يعتدُّ بها. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أُعيدَ لتهويلِه وتفظيعِ ما يقعُ فيه. وقولُه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} تهويلٌ له إثرَ تهويلٍ، وفيه رمزٌ إلى أنَّ التَّفرقَ يقعُ في بعضٍ منه. وضميرُ يتفرَّقُون لجميعِ الخلقِ المدلولِ عليهم بما تقدَّمَ من بدئِهم وإعادتِهم ورجعِهم لا المجرمون خاصَّة. وليسَ المرادُ بتفرُّقِهم افتراقَ كلِّ فردٍ منهم عن الآخرِ بل تفرُّقَهم إلى فريقَيْ المؤمنينَ والكافرينَ كما في قولِه تعالى: {فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير} وذلك بعد تمامِ الحسابِ. وقولُه تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} تفصيلٌ وبيانٌ لأحوالِ ذينكَ الفريقينِ. والرَّوضةُ كلُّ أرضٍ ذاتِ نباتٍ وماءٍ ورَوْنقٍ ونَضارةٍ. وتنكيرُها للتَّفخيم. والمرادُ بها الجَّنةُ، والحُبورُ السُّرورُ يقال حبرَهُ إذا سرَّهُ سُروراً تهلَّل له وجهُه، وقيل: الحَبرةُ كلُّ نغمةٍ حسنةٍ والتَّحبيرُ التَّحسينُ. واختلفتْ فيه الأقاويلُ لاحتمالِه وجوهَ جميعِ المسارِّ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهدٍ: يُكرمون. وعن قَتادةَ يُنعَّمون. وعن ابن كيسانَ يُحلَّون وعن بكر بن عيَّاشِ: التِّيحانُ على رؤوسِهم. وعن وكيعٍ: السَّماعُ في الجَّنةِ. وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم، أنَّه ذكَر الجنَّةَ وما فيها من النعيمِ وفي آخرِ القومِ أعرابيُّ فقالَ: يا رسولَ الله هَلْ في الجَّنةِ من سماعٍ قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يا أعرابيُّ إنَّ في الجنَّةِ لنهراً حافَّتاه الأبكارُ من كلِّ بيضاءَ خُوصانيةِ يتغنَّين بأصواتٍ لم يسمعِ الخلائقُ بمثلِها قَطّ فذلكَ أفضلُ نعيمِ الجنَّةِ» قال الرَّاوي فسألتُ أبا الدرداءِ رضي الله عنه بمَ يتغنَّين قال بالتَّسبيحِ. ورُوي إنَّ في الجنَّةِ لأشجاراً عليها أجراسٌ من فضَّةٍ فإذا أرادَ أهلُ الجَّنةِ السَّماعَ بعثَ الله تعالى ريحاً من تحتِ العرشِ فتقعُ في تلكَ الأشجارِ فتحركُ تلك الأجراسَ بأصواتٍ لو سمعها أهلُ الدُّنيا لماتُوا طرباً.


{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} التي من جُملتها هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما فُصِّل {وَلِقَاء الاخرة} صرَّح بذلك مع اندراجِه في تكذيبِ الآياتِ للاعتناءِ بأمرِه. وقولُه تعالى: {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبارِ اتِّصافِه بما في حيِّز الصِّلةِ من الكُفرِ والتَّكذيبِ بآياتِه تعالى وبلقاءِ الآخرةِ للإيذانِ بكمالِ تميُّزِهم بذلكَ عن غيرِهم وانتظامِهم في سلكِ المُشاهداتِ، وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصِّل من القبائحِ. {فِى العذاب مُحْضَرُونَ} على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبداً.
{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِى السموات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إثرَ ما بُيِّن حالُ فريَقْي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كلِّ مَا لا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ، وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التَّخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ. والفاء لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائقَ به في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه، وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبيءُ عنه قولُه تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} وقولُه تعالى: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} وقولُه صلى الله عليه وسلم: «من قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ». وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبُحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قالَ أو زادَ عليهِ». وقولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ» وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ، وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدِّلالةِ على أنَّ ما يحدثُ فيها من آياتِ قدُرتِه وأحكامِ رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً. وقولُه تعالى: {وعشيَّاً} عطفٌ على {حينَ تُمسون} وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشيِّ كالماء والصباحِ والظَّهيرة، ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مرَّ في سورة النُّور.
وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما. وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما (أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ). ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ، في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة. عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل: {فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون} الآيةَ». وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «من قال حين يُصبح {فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون} إلى قولِه تعالى: {وكذلك تُخرجونَ} أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدركَ ما فاتَه في ليلتِه» وقرئ: {حينا تُمسون وحينا تُصبحون} أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7